في العام 1997 قام وليام كريستول وروبرت كاغان، وهما من رموز المحافظين الجدد، بتأسيس منظمة فكرية غير ربحية Think Tank في واشنطن باسم «مشروع القرن الأميركي الجديد». وبعد فترة وجيزة من قيامها صدر عن المنظمة «إعلان مبادئ Statement of Principals» اعتبر بمثابة ميثاق تأسيسي وقع عليه 27 شخصية عامة. وانخرط في هذا «المشروع» شخصيات سياسية مهمة ومفكرين وخبراء بارزين في الأمن والشؤون الدولية والاستراتيجية، وتضمن بيانه التأسيسي رؤية محددة لما يتعين أن تكون عليه الإستراتيجية الأميركية في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، يمكن عرض أهم ملامحها على النحو التالي:1- بما أن الولايات المتحدة قادت المعسكر الغربي بنجاح إلى أن تحقق له النصر في الحرب الباردة، وتملك من الموارد المادية والمعنوية ما يؤهلها لقيادة العالم منفردة بعد سقوط القطب الآخر المنافس، فعليها إذن أن تتقدم الصفوف وأن تتحمل مسؤولياتها التاريخية لقيادة العالم منفردة في القرن الواحد والعشرين.2- الدور القيادي للولايات المتحدة لا يحقق مصلحة أميركية فقط وإنما يحقق في الوقت نفسه مصلحة للعالم أجمع، وبالتالي فالزعامة الأميركية أمر مرغوب ومرحب به.3- لن يكون بمقدور الولايات المتحدة ممارسة دورها القيادي المأمول ما لم تشرع على الفور في إعادة النظر في مجمل سياساتها الخارجية والدفاعية وتخصص نسبة أكبر من مواردها للإنفاق العسكري وإعادة بناء هياكلها وقدراتها العسكرية بما يتناسب ومتطلبات المرحلة الجديدة.ثم صدر عن «مشروع القرن الأميركي الجديد» بعد عامين من انطلاقه، وقبل إجراء الانتخابات الرئاسية لعام 2000، عن تقرير من 90 صفحة بعنوان: «إعادة بناء الدفاعات الأميركية: الاستراتيجيات، القوات، والموارد المطلوبة لقرن جديد احتوى على تحليل لما يتعين أن تكون عليه السياسات الأمنية في المرحلة المقبلة عكس رؤية استراتيجية جديدة للأمن القومي الأميركي بدا واضحا تماما أنها ترتكز على بناء القدرات العسكرية، ليس فقط باعتبارها قوة ردع وإنما أيضا باعتبارها قوة فعل وتدخل سواء للقيام بعمليات وقائية، عن طريق توجيه ضربات استباقية، أو لأغراض علاجية، من خلال التعامل مع الأزمات بعد وقوعها!.لفت نظر المراقبين حماس القائمين على أمر المنظمة أو «المشروع» الوليد، والذين لم يترددوا في توجيه «رسائل مفتوحة إلى الرئيس كلينتون» تضمنت انتقادات حادة لسياساته، خصوصا تجاه العراق، وفي حثه على اتخاذ كل ما هو ضروري لإزاحة نظام صدام حسين ولو بالقوة المسلحة. وبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية، والتي جرت خلالها محاولة للتوصل إلى تسوية للقضية الفلسطينية تم تحميل مسؤولية الفشل لعرفات وطلب من الإدارة الأميركية مقاطعته وعزله ديبلوماسيا مع تقديم الدعم اللازم لتمكين إسرائيل من سحق انتفاضة الأقصى. وبعد الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2000، والتي فاز فيها مع نائبه ديك تشيني الذي يعد أحد أقطاب «مشروع القرن الأميركي الجديد»، صدرت عن «المشروع» بيانات وأوراق عديدة تحث بوش على عدم التعامل مع السلطة الفلسطينية والعمل بكل الوسائل الممكنة، بما في ذلك الوسائل العسكرية، لإزاحة صدام على الفور. غير أن نقطة الذروة في نشاط المنظمة تواكبت مع وقوع أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، حيث أدركت أن الفرصة باتت سانحة أمامها لممارسة أكبر قدر من النفوذ والتأثير على عملية صنع القرار الأميركي والتحرك الجاد نحو وضع رؤيتها الاستراتيجية للهيمنة الأميركية المنفردة على العالم موضع التطبيق تحت شعار «الحرب الكونية على الإرهاب» الذي كان لها الفضل الأكبر في صكه. وهكذا جرت محاولة، بدت ناجحة في البداية، لتوظيف صدمة أحداث أيلول (سبتمبر) وما تولد عنها من مخاوف هائلة لدفع الإدارة الأميركية في اتجاه: 1- الاعتماد على العمل العسكري كأساس لإدارة علاقاتها الخارجية في مرحلة ما بعد أحداث سبتمبر. 2- عدم الاعتماد على الأطر متعددة الأطراف والانفراد باتخاذ القرارات الاستراتيجية أو بالتنسيق مع حلفاء موثوق بهم كلما كان ذلك ضروريا وفي أضيق الحدود. 3- حسم الحرب في أفغانستان بسرعة، بعد ازاحة (*) حركة طالبان، للتفرغ بعد ذلك للخطوة التالية والأهم في مشروع الهيمنة، ألا وهي السيطرة على العراق الذي اعتبرته نقطة الارتكاز الرئيسية التي يمكن الانطلاق منها لإقامة «شرق أوسط جديد» يتناسب مع متطلبات عالم ما بعد 11 سبتمبر.لذلك يمكن القول، وباطمئنان تام، أن صيغة العلاقة بين «مشروع القرن الأميركي الجديد» و «الإدارة الأميركية» تغيرت كليا بعد وصول الرئيس بوش. فلم تعد هذه العلاقة من قبيل العلاقات النمطية التي تربط عادة بين المؤسسات الفكرية ومراكز صنع القرار بعد أن أصبحت المؤسسة التي أطلقت المشروع في قلب عملية صنع القرار نفسه وتحولت إلى ما يشبه الجهاز المسؤول عن رسم وتخطيط السياسات. دليلنا على ذلك ما يلي:1- تبوأ عدد ضخم من كوادر «المشروع» أعلى وأهم المناصب المتعلقة بتخطيط وتنفيذ السياسات الأمنية والدفاعية في إدارة بوش، خصوصا خلال فترة ولايته الأولى. ولا يتسع المقام هنا للدخول في تفاصيل الأسماء والمناصب، ولكن يكفي أن نذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، رموزا من أمثال: ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، بول ولفووتز، إليوت أبرامز، ريتشارد أرمتاج، جون بولتون، زلمان خليل زاد، لويس سكوتر (ليبي)، ريتشارد بيرل، روبرت زوليك، وغيرهم كثيرين. معنى ذلك أن أهم الكوادر التي قادت السياسة الخارجية في إدارة بوش كانوا في الواقع من مؤسسي «مشروع القرن الأميركي الجديد».2- النهج الذي سلكته سياسة بوش الخارجية، خصوصا بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، والذي عكس التزاما أيديولوجيا بأطروحات تيار المحافظين الجدد كما عبر عنه «مشروع القرن الأميركي الجديد»، بأكثر مما عكس السلوك التقليدي للعقل البراغماتي الأميركي. لذلك لم يكن غريبا أن تلجأ إدارة بوش إلى أساليب التمويه والخداع والكذب الصريح لمحاولة إثبات صلة صدام حسين بتنظيم القاعدة، وهي محاولات باءت جميعها بالفشل وكشفت عن فضائح دفع ثمنها كوادر رئيسية من منظري «المشروع». ولا يحتاج المرء إلى برهان لإثبات أن السياسات التي اتبعتها إدارة بوش في مجالات الدفاع والأمن تكاد تكون صورة طبق الأصل من السياسات المقترحة في الوثائق الصادرة عن «مشروع القرن الأميركي الجديد».3- التراجع التدريجي لبريق وتأثير «مشروع القرن الأميركي الجديد»، على الصعيدين الأيديولوجي والسياسي، والذي تزامن مع تعثر الخطط والبرامج والعمليات العسكرية على الأرض، خصوصا بعد انغراس القوات الأميركية في الوحل العراقي ثم في الوحل الأفغانستاني. فقد راحت الفضائح تتكشف وتطيح بالرؤوس الكبيرة الواحد بعد الآخر، وفي مقدمها رامسفيلد، ومعها راحت هيبة «المشروع» تتراجع وتخفت النبرة المستخدمة في بياناته الحماسية ووثائقه المثيرة للجدل، إلى أن كاد المشروع نفسه يصبح مجرد موقع على الانترنت.ومع ذلك يبدو من الضروري أن نميز بين المشروعات الفكرية التي تروج للهيمنة الأميركية المنفردة عن العالم، والتي كان «مشروع القرن الأميركي الجديد» أحد أهمها في السنوات الأخيرة، وبين طموحات وسياسات الهيمنة، والتي يغذيها اليمين المتطرف والمركب الصناعي-العسكري الأميركيين. فالمشروعات الفكرية لا تدم (**) طويلا لأنها قد تظهر وتتوهج لفترة ثم تختفي تدريجيا أو فجأة، أما طموحات وسياسات الهيمنة فتستمر في العادة لفترة ليست بالقصيرة. صحيح أن السياسات الخارجية والعمليات العسكرية الأميركية تبدو الآن متخبطة أو متعثرة في أماكن كثيرة من العالم، وصحيح أن قدرة الولايات المتحدة على تحقيق نصر حاسم في العراق أو في أفغانستان تبدو ضئيلة أو معدومة تماما، لكن الصحيح أيضا أن قدرة هذه الدولة العظمى على الصمود في مواقعها، ولفترة مقبلة قد تطول، ما تزال كبيرة أيضا. وفي جميع الأحوال فسيتعين على السياسات الأميركية، خصوصا أن إدارة بوش تستعد للرحيل خائبة الرجاء، أن تغير من نهجهها بصرف النظر عما إذا كان الرئيس المقبل هو باراك أوباما أو جون (***) ماكين. فقد تغير النظام الدولي كثيرا خلال السنوات الثماني العجاف التي أمضاها جورج بوش في البيت الأبيض. وحتى بافتراض أن ماكين سيشكل امتدادا فعليا للسياسات اليمينية التي انتهجها جورج بوش، إلا أنه سيضطر حتما لتغيير أسلوبه وتكتيكاته خصوصا في موضوع الحرب «الكونية» على الإرهاب.وفي تقديري أنه سيتعين على أي رئيس أميركي قادم أن يستخلص من سنوات بوش العجاف في البيت الأبيض دروسا على جانب كبير من الأهمية، يمكن إجمال أهمها على النحو التالي:الدرس الأول: خطورة ربط الإرهاب، وهو خطر حقيقي يهدد البشرية بأسرها وليس دولة بعينها أو مجتمعا بذاته، بطموحات الهيمنة. فالإصرار الأميركي على فرض مشروع الهيمنة على العالم تحت غطاء «الحرب الكونية على الإرهاب»، أضر في الواقع بالاثنين معا. فقد سقط مشروع الهيمنة أو توقف وأصبح آيلا للسقوط بعد أن ادى إلى استنزاف كبير للدولة التي سعت لفرضه وفي الوقت نفسه ازداد الإرهاب خطرا وتوحشا. ولذلك فإن أي محاولة جادة في المستقبل من جانب الولايات المتحدة للتصدي للإرهاب ومحاولة القضاء عليه يجب أن تبدأ بفك الارتباط بين الأمرين: مشروع الهيمنة ومشروع مكافحة الإرهاب لأن من شأن الربط بين الاثنين أن يضر بكليهما معا.الدرس الثاني: خطورة انفراد دولة واحدة بعينها، مهما بلغت ضخامة موارها، بصنع القرار في النظام الدولي، خصوصا في موضوع يهم العالم بأسره كموضوع الإرهاب. ولذلك فالاهتمام بالعمل متعدد الأطراف يبدو أمرا ليس فقط مستحبا ولكن ضروريا ايضا. وهنا تبدو الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى للاهتمام بمؤسسات الأمم المتحدة وإصلاحها وتقويتها وتحويلها إلى مؤسسة حقيقية لصنع القرار الجماعي الدولي.الدرس الثالث: صعوبة التصدي للإرهاب بالوسائل العسكرية أو الأمنية وحدها. صحيح أن الارهاب يعد أحد أهم المصادر التي تهدد أمن الدول والمجتمعات، لكنه في الواقع عرض لمرض ومن ثم يتعين العمل على اجتثاث أسبابه وعدم الاكتفاء بالتعامل مع مظاهره الخارجية. لذا وجبت الاستعانة أيضا بوسائل العلاج الديبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، دونما استبعاد كلي بالضرورة للوسائل العسكرية والأمنية.الدرس الرابع: صعوبة التصدي للإرهاب بمعزل عن مصادر التهديد الأخرى للأمن الإنساني: كالفقر والتلوث والأمية والأمراض المعدية العابرة للقارات، وغيرها. فلم يعد ممكنا في زمن العولمة القيام بمعالجة جذرية لأي مصدر من مصادر التهديد بمعزل عن معالجة مصادر التهديد الأخرى.باختصار يمكن القول إنه سيكون من المستحيل في المستقبل وضع سياسة فعالة لمكافحة الإرهاب إلا إذا كانت جزءا من سياسة شاملة لنظام إنساني عالمي يتعامل مع كل تهديد لأمن البشر، وفي أي مكان في العالم، باعتباره مسؤولية جماعية يتعين على البشرية كلها أن تتعاون معا للنهوض بها. المصدر: الحياة اللندنية