رحم الله الكاتب الكبير محمد سيد أحمد، فقد كانت كتاباته محاولة حقيقية لإرساء منهج عقلاني في علم السياسة. إن مناقشة السياسة بمنهج عقلاني ليست ضمانة للخروج بنتائج واحدة أو صحيحة، فسوف تظل شئون السياسة شوالاقتصاد مجالا للانحيازات والصراعات الاجتماعية، بحيث يستحيل أن يكون المنهج العقلاني ضمانة نهائية وقاطعة للوصول إلي نتائج متشابهة، ومع ذلك يظل هذا المنهج ضمانة لأن يكون الخلاف في منأي من الأهواء، والأهواء مجال أكثر اتساعا وصخبا ولاعقلانية بما لايقاس. جالت بذهني ذكري محمد سيد أحمد، وأنا أتلقي بعض الانتقادات من زملاء أعزاء علي المقال الذي نشرته «البديل» لي منذ أسبوعين اجتهادا للخروج من الأزمة السياسية العميقة التي تمر بها بلادنا بعنوان "هل يقبل الإخوان المسلمين بعلمانية الدولة؟". كان لمحمد سيد أحمد اجتهاد مهم في محاولة تطبيق ما أسماه باللعبة غير الصفرية في مجال حل الصراعات. واللعبة غير الصفرية هي أن يوجد حل لصراع بين طرفين ، تكون نتيجته مكسبا لكليهما، علي عكس اللعبة الصفرية ، والذي تكون نتيجته صفرا حيث يخرج أحد الطرفين فائزا علي حساب خسارة مؤكدة للطرف الثاني، بحيث لوجمعت النتيجتين، واحداهما سالبة، والثانية موجبة، تكون النتيجة النهائية صفرا . اكسب ودع غيرك يكسب
في الحالة الأولي "اللعبة غير الصفرية " يكسب الطرفان بحيث يكون حاصل جمع ما حصل عليه الطرفان موجبا، لذا يمكن تسميتها أيضا بحل "اكسب ودع غيرك يكسب". ومنذ لفت نظري محمد سيد أحمد إلي هذا المنطق ، لم أكف عن مراقبة أي المنطقين أكثر شيوعا سواء في المجتمع المصري أو علي مستوي نخبه السياسية، وقد كانت فجيعة بالنسبة لي أن اكتشف غياب منطق "اكسب ودع غيرك يكسب"، وسيادة منطق اللعبة الصفرية أو "حطم خصومك إلي آخر نفس"سواء في المجتمع المصري أو علي مستوي النخب السياسية، ولم أكف منذ وقت طويل عن التساؤل عن سبب انتشار المنطق التخسيري إن صح التعبير وغياب منطق "اكسب ودع غيرك يكسب" علي كل المستويات. استبعدت منذ البداية تفسير ذلك من خلال المنهج العنصري الذي يلصق صفات ثابتة ببعض الشعوب، فأنا من أنصار منهج أن كل شيء يتغير وأنه لايجوز الحديث عن صفات ثابتة في أي شعب من الشعوب بما فيها الشعب المصري. الشيء الوحيد الثابت هو منطق التغير والتحول، أما الثبات والدوام فلله وحده.شخصيا انحزت إلي تفسير سيادة المنهج التخسيري، و"حطم خصومك إلي آخر نفس" شعبيا بسبب ضيق الرزق، إن صح التعبير. إن سيادة منطق "اكسب ودع غيرك يكسب" يلزمه سعة في الفرص المتاحة، وفي تقديري أنه ينتمي إلي المجتمع الصناعي أكثر من انتمائه إلي أي شكل آخر من المجتمعات. في المجتمعات الصناعية فقط يمكن تحقيق مضاعفة الدخل القومي كل عدد محدود من السنوات، فتتسع الآفاق أمام الجميع ، ويمكن أن يجد تطبيق مبدأ "اكسب ودع غيرك يكسب" فرصة حقيقية للتطبيق.منهج اللعبةأما سيادة المنطق التخسيري علي مستوي النخب في بلادنا، فلم أجد تفسيرا له إلا في ضيق الأفق، وهو شيء يفوق في خطورته ضيق الرزق المسئول عن سيادة نفس المنطق شعبيا، أو ربما كان مجرد انعكاس لضيق الرزق شعبيا علي النخب. وفي محاولة مني لفهم اعتراضات بعض الزملاء علي مقإلي السابق، تبين لي أن الخلاف بيني وبينهم يمكن رده إلي تطبيقي لمنهج اللعبة غير الصفرية في إيجاد حل للأزمة السياسية التي اعتبرتها مستحكمة الحلقات، بينما لاتزال أغلب النخب السياسية في مصر منحازة بقوة إلي منطق "حطم خصومك إلي آخر نفس"، حتي لو كانوا يدركون جيدا عجزهم عن تحقيق هدفهم هذا. لقد انطلقت من حقيقة أن خشية القوي العلمانية والأقباط من وثوب الإخوان إلي السلطة من خلال الانتخابات في ظل عزوف الغالبية العظمي من الشعب عن الفعل السياسي، قد أدي إلي وضع مريح جدا لنظام مبارك، مكنه من الاستمرار حتي الآن رغم أنف الغالبية العظمي من الشعب. في ظل هذا الاستقطاب القائم، لا يوجد فائز سوي نظام مبارك، وكل أطراف المعارضة بما في ذلك الإخوان المسلمين خاسرون.. خاسرون، لكن الخاسر الأعظم هو الشعب المصري، والذي لا يوجد أمل في إصلاح أوضاعه إلا بتحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي، وهو أمر يتطلب إنهاء الحقبة المباركية، سواء كانت تلك الحقبة بقيادة حسني مبارك نفسه أو أي وريث آخر، فالنظام الحإلي هو نظام توريثي بامتياز، سواء كان الوريث المقبل هو جمال مبارك أو أي رئيس مبارك غيره.اللعبة الصفرية وإذا كان غير ممكن للعبة مع نظام مبارك إلا أن تكون لعبة صفرية ، فإن الذي يجب أن يتوقف من وجهة نظري هو ممارسة نفس اللعبة الصفرية بين طرفي المعارضة الدينية والعلمانية. في ظني أنه يوجد أمل في هذا الجانب - المعارضة بشقيها- للعبة غير صفرية والتحلي بأكبر قدر ممكن من الروح العملية لكي تمارس لعبة غير صفرية، يخرج فيها الطرفان بمكاسب حقيقية، لكن الكاسب الأكبر سوف يكون في حال نجاح هذه المساومة الكبري هو الشعب المصري، هو نحن جميعا، لأن التخلص من النظام الحإلي بانطلاقة ديمقراطية هو أفضل الخيارات النظرية الممكنة أمام شعب لا يستحق المصير البائس الذي يتردي فيه الآن. لايخالجني أدني شك في أن انطلاقة كبري ممكنة في بلادنا يحققها شعبنا في زمن وجيز، لو توفر له نظام سياسي واجتماعي ديمقراطي. ليس هذا بيعا للوهم أو عنصرية مصرية، لكني ببساطة أقرأ ما أمكن لشعوب كثيرة في نفس مستوانا الحضاري أن تحققه في زمن محدود. إن هذا عصر تراكم الثروة بالعمل الجاد باستغلال الانفجار المعلوماتي الذي تقلصت فيه حجم المعلومات التي يمكن حجبها إلي حد بعيد، وهو عصر يفتح أذرعه بقوة لكل الشعوب ذات التطور المتوسط مثلنا، يتيح لها أن تنطلق بسرعة بشرط توافر ظروف الانطلاق.هل يوجد تصور تخطيطي لهذا الحل السعيد الذي يقترب من الأوهام من فرط مفارقته لما يبدو أمرا واقعا ومريرا في الوقت ذاته.سيناريو دعونا نتصور السيناريو التإلي:-1- تعلن حركة الإخوان المسلمين قبولها للعمل وفق دستور علماني، وألا تسعي إلي تغييره حال فوزها في الانتخابات، حيث يتم تضمين الدستور شرط عدم إمكان تغييره قبل مرور عشر سنوات تحت أي ظرف من الظروف.2- تعلن جماعة الإخوان المسلمين استعدادها لنقاش سياسي عميق مع القوي العلمانية، لكي يتضمن الدستور الانتقإلي هذا العديد من الضمانات التي توفر الجانب الآخر من الديمقراطية، والقاضي بتوفير حماية الأقليات السياسية والدينية، بغض النظر عمن يكون في موقع الأغلبية، وقد سبق أن تعرضنا لبعضها في المقال السابق، مثل أن يتم النص في الدستور علي ضرورة انتخاب رئيس الجمهورية من حزب سياسي غير الحزب الحاصل علي أغلبية البرلمان، وأيضا النص علي ألا تزيد عدد المقاعد التي يشغلها الحزب الحائز علي الأغلبية في المجلس التشريعي الأول (مجلس الشعب)، علي ثلث عدد المقاعد في المجلس التشريعي الثاني (مجلس الشوري)، والأهم من ذلك أن تكون سلطة استدعاء الجيش في حالة شبهة الاعتداء علي الدستور، في يد مجلس وليس فرد، ومن الممكن أن يكون ذلك مجلسا ثلاثيا يضم رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الشعب، ورئيس مجلس الشوري.3- يمثل الدستور الانتقإلي- بعد الاتفاق عليه - نقطة انطلاق لحركة شعبية واسعة تضم أطراف المعارضة العلمانية والدينية، ويقوم ذلك الائتلاف الديمقراطي بكل ما يراه ممكنا وضروريا للضغط علي الرئيس مبارك لتقديم استقالته، ليبدأ عصر سياسي جديد عنوانه ذلك الدستور الانتقإلي.ممارسات الإخوانأعلم أن البعض من العلمانيين سوف يسارع بتسفيه هذه الاقتراحات استنادا للممارسات الحإلية للإخوان المسلمين، وربما بعض الندوب التي أصابت الوطن من تلك الممارسات، وهي ندوب حقيقية، كما أنني أتصور أن كثيرا من ممثلي الإسلام السياسي سوف يعتبرون أن الإقرار بدستور من هذا القبيل، والتعهد باحترامه يمثل تنازلا عن الثوابت، وما أكثر الثوابت عند هؤلاء، فهي تبدأ بفهم حرفي أو نصي لآيات القرآن، وتنتهي بالحجاب، وعند البعض بالجلباب الذي يداري الركبة، لكنه لا يصل إلي الأرض. أعلم أن سيناريو بهذا الشكل هو سباحة ضد تيار جارف جزء منه تصنعه حقائق، وجزء آخر غير حقيقي صنعته الصور الزائفة والنمطية عن الآخر، لكني أراهن علي الروح العملية التي أري من مصلحة الطرفين في المعارضة العلمانية والدينية التمسك بها. إن أسوأ ما في الأيديولوجيا ـ وهذا أمر ينطبق علي الطرفين ـ هو قدرتها علي التعمية عن المصالح الحقيقية، وهي لب ومحرك أي سياسة تستحق هذا الاسم. كما أنني في واقع الأمر أراهن علي غياب أي حل آخر لدي أي طرف من الاطراف اللهم إلا:-1- الاستمرار فيما هو قائم، باستمرار الأحلام الأيديولوجية في كل جانب، فكل طرف يأمل في أن يمل الطرف الآخر من الصراع، وأن يسلم في آخر الامر بأحقيته هو أو بجدارته.2- التسليم من جانب العلمانيين والأقباط بأن النظام القائم أفضل بما لايقاس من مجئ الإخوان المسلمين إلي السلطة. لم يكن هبوط حركات التغيير التي ظهرت بقوة في العام 2005، لمجرد أن الأمريكان راحوا يبسطون حمايتهم علي نظام مبارك منذ بداية 2006 بسبب من تفاقم مأزقهم في العراق، وخشية تزايد نفوذ الإخوان في مصر، بل إن الأهم من كل ذلك، هو أن المعارضة العلمانية، طرحت علي نفسها سؤالا حقيقيا أثار الريب والشكوك في أوساطها. لقد كان ذلك السؤال، هو ما جدوي معارضة النظام بكل تلك القوة، إذا كان الإخوان المسلمين هم وحدهم المستفيدين من إضعاف النظام الحإلي؟. كما أن الإخوان قد أبدوا نوعا من التعإلي علي الجميع متباهين بنتائجهم الكبيرة في تلك الانتخابات. هنا، وهنا فقط يمكن تفسير الانحسار الذي أصاب العديد من حركات التغيير، وفي المقدمة منها حركة كفاية التي أصابها هزال شديد، والحملة الشعبية من أجل التغيير التي اختفت تماما من الساحة السياسية.حلم الشعبدعنا إذن نمعن في الحلم، لنري في ظل ذلك السيناريو أي مكاسب يحققها الأطراف المختلفة، ناهيك عن الشعب المصري فهو الكاسب الأهم في ذلك السيناريو.أليس مكسبا كبيرا للإخوان أن يكونوا في أسوأ الظروف شريكا في السلطة بدلا من أن يظلوا قابعين خلف الأسوار، ويعانون كل يوم من ملاحقات لا تنتهي. أليس مكسبا كبيرا للعلمانيين والأقباط أن يمنحوا فرصة عشر سنوات من الحكم في ظل دستور علماني ليس فيه المادة 76 ولا المادة 77، وأيضا ولا المادة الثانية من الدستور، والتي لم يكن إقحامها في الدستور المصري إلا مناورة سياسية من السادات الذي أتقن تماما المناورة علي كل الأطراف. ألن تخلق هذه السنوات العشر- وهي الفترة الانتقإلية التي ينص عليها في الدستور الانتقإلي - مناخا عاما يجعل الحكم الديني غير ممكن بعدها. أغلب الظن أن الإخوان المسلمين بعد هذه السنوات العشر سوف يكونون أقرب إلي حزب العدالة والتنمية في تركيا من أي شيء آخر.وليس خافيا علي أحد أن الخاسر الوحيد في هذا السيناريو هو نظام مبارك، وهو أمر سوف يسعد به الجميع، وفي المقدمة منهم الغالبية العظمي من شعبنا.أرجو ألا يكون ما قمت به في هذا المقال مجرد تمارين ذهنية أو أمثلة محلولة عن اللعبة غير الصفرية، وأن يلتقط ذلك السيناريو في كلا الطرفين من يتحلون بالقدرة علي مخالفة الشائع والمطروق من طرق التفكير، ويمتلكون القدرة علي الحلم. لم تتقدم البشرية في أي وقت بالحفاظ علي الثوابت وإعادة إنتاج المألوف من الأفكار، وإنما علي وجه الدقة بإنتاج أفكار جديدة كانت في كل المرات خروجا علي المألوف.
(*)نقلا عن البديل
في الحالة الأولي "اللعبة غير الصفرية " يكسب الطرفان بحيث يكون حاصل جمع ما حصل عليه الطرفان موجبا، لذا يمكن تسميتها أيضا بحل "اكسب ودع غيرك يكسب". ومنذ لفت نظري محمد سيد أحمد إلي هذا المنطق ، لم أكف عن مراقبة أي المنطقين أكثر شيوعا سواء في المجتمع المصري أو علي مستوي نخبه السياسية، وقد كانت فجيعة بالنسبة لي أن اكتشف غياب منطق "اكسب ودع غيرك يكسب"، وسيادة منطق اللعبة الصفرية أو "حطم خصومك إلي آخر نفس"سواء في المجتمع المصري أو علي مستوي النخب السياسية، ولم أكف منذ وقت طويل عن التساؤل عن سبب انتشار المنطق التخسيري إن صح التعبير وغياب منطق "اكسب ودع غيرك يكسب" علي كل المستويات. استبعدت منذ البداية تفسير ذلك من خلال المنهج العنصري الذي يلصق صفات ثابتة ببعض الشعوب، فأنا من أنصار منهج أن كل شيء يتغير وأنه لايجوز الحديث عن صفات ثابتة في أي شعب من الشعوب بما فيها الشعب المصري. الشيء الوحيد الثابت هو منطق التغير والتحول، أما الثبات والدوام فلله وحده.شخصيا انحزت إلي تفسير سيادة المنهج التخسيري، و"حطم خصومك إلي آخر نفس" شعبيا بسبب ضيق الرزق، إن صح التعبير. إن سيادة منطق "اكسب ودع غيرك يكسب" يلزمه سعة في الفرص المتاحة، وفي تقديري أنه ينتمي إلي المجتمع الصناعي أكثر من انتمائه إلي أي شكل آخر من المجتمعات. في المجتمعات الصناعية فقط يمكن تحقيق مضاعفة الدخل القومي كل عدد محدود من السنوات، فتتسع الآفاق أمام الجميع ، ويمكن أن يجد تطبيق مبدأ "اكسب ودع غيرك يكسب" فرصة حقيقية للتطبيق.منهج اللعبةأما سيادة المنطق التخسيري علي مستوي النخب في بلادنا، فلم أجد تفسيرا له إلا في ضيق الأفق، وهو شيء يفوق في خطورته ضيق الرزق المسئول عن سيادة نفس المنطق شعبيا، أو ربما كان مجرد انعكاس لضيق الرزق شعبيا علي النخب. وفي محاولة مني لفهم اعتراضات بعض الزملاء علي مقإلي السابق، تبين لي أن الخلاف بيني وبينهم يمكن رده إلي تطبيقي لمنهج اللعبة غير الصفرية في إيجاد حل للأزمة السياسية التي اعتبرتها مستحكمة الحلقات، بينما لاتزال أغلب النخب السياسية في مصر منحازة بقوة إلي منطق "حطم خصومك إلي آخر نفس"، حتي لو كانوا يدركون جيدا عجزهم عن تحقيق هدفهم هذا. لقد انطلقت من حقيقة أن خشية القوي العلمانية والأقباط من وثوب الإخوان إلي السلطة من خلال الانتخابات في ظل عزوف الغالبية العظمي من الشعب عن الفعل السياسي، قد أدي إلي وضع مريح جدا لنظام مبارك، مكنه من الاستمرار حتي الآن رغم أنف الغالبية العظمي من الشعب. في ظل هذا الاستقطاب القائم، لا يوجد فائز سوي نظام مبارك، وكل أطراف المعارضة بما في ذلك الإخوان المسلمين خاسرون.. خاسرون، لكن الخاسر الأعظم هو الشعب المصري، والذي لا يوجد أمل في إصلاح أوضاعه إلا بتحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي، وهو أمر يتطلب إنهاء الحقبة المباركية، سواء كانت تلك الحقبة بقيادة حسني مبارك نفسه أو أي وريث آخر، فالنظام الحإلي هو نظام توريثي بامتياز، سواء كان الوريث المقبل هو جمال مبارك أو أي رئيس مبارك غيره.اللعبة الصفرية وإذا كان غير ممكن للعبة مع نظام مبارك إلا أن تكون لعبة صفرية ، فإن الذي يجب أن يتوقف من وجهة نظري هو ممارسة نفس اللعبة الصفرية بين طرفي المعارضة الدينية والعلمانية. في ظني أنه يوجد أمل في هذا الجانب - المعارضة بشقيها- للعبة غير صفرية والتحلي بأكبر قدر ممكن من الروح العملية لكي تمارس لعبة غير صفرية، يخرج فيها الطرفان بمكاسب حقيقية، لكن الكاسب الأكبر سوف يكون في حال نجاح هذه المساومة الكبري هو الشعب المصري، هو نحن جميعا، لأن التخلص من النظام الحإلي بانطلاقة ديمقراطية هو أفضل الخيارات النظرية الممكنة أمام شعب لا يستحق المصير البائس الذي يتردي فيه الآن. لايخالجني أدني شك في أن انطلاقة كبري ممكنة في بلادنا يحققها شعبنا في زمن وجيز، لو توفر له نظام سياسي واجتماعي ديمقراطي. ليس هذا بيعا للوهم أو عنصرية مصرية، لكني ببساطة أقرأ ما أمكن لشعوب كثيرة في نفس مستوانا الحضاري أن تحققه في زمن محدود. إن هذا عصر تراكم الثروة بالعمل الجاد باستغلال الانفجار المعلوماتي الذي تقلصت فيه حجم المعلومات التي يمكن حجبها إلي حد بعيد، وهو عصر يفتح أذرعه بقوة لكل الشعوب ذات التطور المتوسط مثلنا، يتيح لها أن تنطلق بسرعة بشرط توافر ظروف الانطلاق.هل يوجد تصور تخطيطي لهذا الحل السعيد الذي يقترب من الأوهام من فرط مفارقته لما يبدو أمرا واقعا ومريرا في الوقت ذاته.سيناريو دعونا نتصور السيناريو التإلي:-1- تعلن حركة الإخوان المسلمين قبولها للعمل وفق دستور علماني، وألا تسعي إلي تغييره حال فوزها في الانتخابات، حيث يتم تضمين الدستور شرط عدم إمكان تغييره قبل مرور عشر سنوات تحت أي ظرف من الظروف.2- تعلن جماعة الإخوان المسلمين استعدادها لنقاش سياسي عميق مع القوي العلمانية، لكي يتضمن الدستور الانتقإلي هذا العديد من الضمانات التي توفر الجانب الآخر من الديمقراطية، والقاضي بتوفير حماية الأقليات السياسية والدينية، بغض النظر عمن يكون في موقع الأغلبية، وقد سبق أن تعرضنا لبعضها في المقال السابق، مثل أن يتم النص في الدستور علي ضرورة انتخاب رئيس الجمهورية من حزب سياسي غير الحزب الحاصل علي أغلبية البرلمان، وأيضا النص علي ألا تزيد عدد المقاعد التي يشغلها الحزب الحائز علي الأغلبية في المجلس التشريعي الأول (مجلس الشعب)، علي ثلث عدد المقاعد في المجلس التشريعي الثاني (مجلس الشوري)، والأهم من ذلك أن تكون سلطة استدعاء الجيش في حالة شبهة الاعتداء علي الدستور، في يد مجلس وليس فرد، ومن الممكن أن يكون ذلك مجلسا ثلاثيا يضم رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الشعب، ورئيس مجلس الشوري.3- يمثل الدستور الانتقإلي- بعد الاتفاق عليه - نقطة انطلاق لحركة شعبية واسعة تضم أطراف المعارضة العلمانية والدينية، ويقوم ذلك الائتلاف الديمقراطي بكل ما يراه ممكنا وضروريا للضغط علي الرئيس مبارك لتقديم استقالته، ليبدأ عصر سياسي جديد عنوانه ذلك الدستور الانتقإلي.ممارسات الإخوانأعلم أن البعض من العلمانيين سوف يسارع بتسفيه هذه الاقتراحات استنادا للممارسات الحإلية للإخوان المسلمين، وربما بعض الندوب التي أصابت الوطن من تلك الممارسات، وهي ندوب حقيقية، كما أنني أتصور أن كثيرا من ممثلي الإسلام السياسي سوف يعتبرون أن الإقرار بدستور من هذا القبيل، والتعهد باحترامه يمثل تنازلا عن الثوابت، وما أكثر الثوابت عند هؤلاء، فهي تبدأ بفهم حرفي أو نصي لآيات القرآن، وتنتهي بالحجاب، وعند البعض بالجلباب الذي يداري الركبة، لكنه لا يصل إلي الأرض. أعلم أن سيناريو بهذا الشكل هو سباحة ضد تيار جارف جزء منه تصنعه حقائق، وجزء آخر غير حقيقي صنعته الصور الزائفة والنمطية عن الآخر، لكني أراهن علي الروح العملية التي أري من مصلحة الطرفين في المعارضة العلمانية والدينية التمسك بها. إن أسوأ ما في الأيديولوجيا ـ وهذا أمر ينطبق علي الطرفين ـ هو قدرتها علي التعمية عن المصالح الحقيقية، وهي لب ومحرك أي سياسة تستحق هذا الاسم. كما أنني في واقع الأمر أراهن علي غياب أي حل آخر لدي أي طرف من الاطراف اللهم إلا:-1- الاستمرار فيما هو قائم، باستمرار الأحلام الأيديولوجية في كل جانب، فكل طرف يأمل في أن يمل الطرف الآخر من الصراع، وأن يسلم في آخر الامر بأحقيته هو أو بجدارته.2- التسليم من جانب العلمانيين والأقباط بأن النظام القائم أفضل بما لايقاس من مجئ الإخوان المسلمين إلي السلطة. لم يكن هبوط حركات التغيير التي ظهرت بقوة في العام 2005، لمجرد أن الأمريكان راحوا يبسطون حمايتهم علي نظام مبارك منذ بداية 2006 بسبب من تفاقم مأزقهم في العراق، وخشية تزايد نفوذ الإخوان في مصر، بل إن الأهم من كل ذلك، هو أن المعارضة العلمانية، طرحت علي نفسها سؤالا حقيقيا أثار الريب والشكوك في أوساطها. لقد كان ذلك السؤال، هو ما جدوي معارضة النظام بكل تلك القوة، إذا كان الإخوان المسلمين هم وحدهم المستفيدين من إضعاف النظام الحإلي؟. كما أن الإخوان قد أبدوا نوعا من التعإلي علي الجميع متباهين بنتائجهم الكبيرة في تلك الانتخابات. هنا، وهنا فقط يمكن تفسير الانحسار الذي أصاب العديد من حركات التغيير، وفي المقدمة منها حركة كفاية التي أصابها هزال شديد، والحملة الشعبية من أجل التغيير التي اختفت تماما من الساحة السياسية.حلم الشعبدعنا إذن نمعن في الحلم، لنري في ظل ذلك السيناريو أي مكاسب يحققها الأطراف المختلفة، ناهيك عن الشعب المصري فهو الكاسب الأهم في ذلك السيناريو.أليس مكسبا كبيرا للإخوان أن يكونوا في أسوأ الظروف شريكا في السلطة بدلا من أن يظلوا قابعين خلف الأسوار، ويعانون كل يوم من ملاحقات لا تنتهي. أليس مكسبا كبيرا للعلمانيين والأقباط أن يمنحوا فرصة عشر سنوات من الحكم في ظل دستور علماني ليس فيه المادة 76 ولا المادة 77، وأيضا ولا المادة الثانية من الدستور، والتي لم يكن إقحامها في الدستور المصري إلا مناورة سياسية من السادات الذي أتقن تماما المناورة علي كل الأطراف. ألن تخلق هذه السنوات العشر- وهي الفترة الانتقإلية التي ينص عليها في الدستور الانتقإلي - مناخا عاما يجعل الحكم الديني غير ممكن بعدها. أغلب الظن أن الإخوان المسلمين بعد هذه السنوات العشر سوف يكونون أقرب إلي حزب العدالة والتنمية في تركيا من أي شيء آخر.وليس خافيا علي أحد أن الخاسر الوحيد في هذا السيناريو هو نظام مبارك، وهو أمر سوف يسعد به الجميع، وفي المقدمة منهم الغالبية العظمي من شعبنا.أرجو ألا يكون ما قمت به في هذا المقال مجرد تمارين ذهنية أو أمثلة محلولة عن اللعبة غير الصفرية، وأن يلتقط ذلك السيناريو في كلا الطرفين من يتحلون بالقدرة علي مخالفة الشائع والمطروق من طرق التفكير، ويمتلكون القدرة علي الحلم. لم تتقدم البشرية في أي وقت بالحفاظ علي الثوابت وإعادة إنتاج المألوف من الأفكار، وإنما علي وجه الدقة بإنتاج أفكار جديدة كانت في كل المرات خروجا علي المألوف.
(*)نقلا عن البديل