يثور بصدد مفهوم أو مصطلح الطريق الثالث أو طريق الوسط عدة تساؤلات، بعضها يتعلق ظهوره على سطح الحياة النظرية بهذه الكثافة، وتساؤلات أخرى تتعلق بجدوى هذا المفهوم وقدرته على طرح حلول لإشكاليات تعاني منها النظم الاشتراكية المتهاوية والنظم الليبرالية المستأسدة على حد سواء.
معظم الدارسين والمنظّرين الذين تناولوا هذا المفهوم بالتحليل ركّزوا على جانبه الاقتصادي متناسين - ربما بحسن نية - أن النظم السياسية سواء الشمولية أو الديمقراطية الليبرالية هي المتسبب الأول في هذا الارتباك الفكري على مستوى التنظيم السياسي والاقتصادي الاجتماعي معًا، نتيجة تطبيق كل منها الحد الأقصى والسقف الأعلى للسياسات، فالاشتراكية أسرفت في اشتراكيتها، والرأسمالية غالت في رأسماليتها، وضاع طريق الوسط على أرض الواقع، بل وعلى مستوى النظرية في أحيان كثيرة.
جاذبية الطريق الثالث
الطريق الثالث كما ظهرت فكرته لأول مرة عام 1936 على يد الكاتب السويدي "arquis Child " هو طريق الوسط بين مفهومي الليبرالية الاقتصادية والاشتراكية الماركسية، فهو أسلوب يوائم بين رأسمالية السوق الحر والمفهوم الكلاسيكي عن الأمن والتضامن الاجتماعي.
وتنبع جاذبية هذا المفهوم من كونه لا يتبنّى السقف الأعلى أو الحد الأقصى لكل نظرية، أي أنه جسر بين الأيدولوجيات. وعلى الرغم من أن الاشتراكية الثورية لم تحظَ بأي قبول داخل الولايات المتحدة فإن القيم والمثل الاشتراكية - خاصة قيمة العدل الاجتماعي - تغلغلت بشكل قوي في توجهات الديمقراطيين الليبراليين واليساريين على حد سواء، كما لا يخفى على معظم المفكرين حقيقة إصابة المجتمعات الأوروبية والمجتمع الأمريكي بخسائر من جرّاء تطبيق الأفكار الليبرالية المحضة. وبغضّ النظر عن النتائج المؤسفة من جرّاء تطبيق القيم الاشتراكية في ظل النظم المركزية الشيوعية، فإنها تظل لها جاذبيتها في وجدان الأغلبية من المستضعفين.
لماذا تجدّد طرحه؟
هناك عدد من العوامل والظروف الدولية والمحلية ساعدت على طرح هذا المفهوم مجددًا، أبرزها:
- سقوط القطبية الثنائية بتهاوي الاتحاد السوفييتي وسيادة الولايات المتحدة على مسرح الأحداث العالمي، متجاوزة الأطراف الأخرى، ليس فقط الدول النامية ولكن بعض الدول الأوروبية كذلك.
- الوعي بخطورة سياسات الجات على الدول النامية والدول الصناعية الجديدة خاصة الآسيوية، وسعي بعض الدول الأوروبية لتفادي كارثة دولية تتمثل في صراع قد ينشب بين الشمال الغني والجنوب الفقير، وذلك بمحاولة إيجاد حوار بين دول العالم الثالث والدول المتقدمة لعلاج المشاكل التي تواجه الجميع في عالم واحد، وهو ما جسّدته الأحداث الأخيرة في سياتل 2000 وغيرها.
3 - ظاهرة الدمج بين الشركات العملاقة والوحدات الكبيرة على حساب الأسواق المحلية، والشعور بالحاجة إلى دولة قوية ومجتمع قوي في آن واحد، أي صيغة جديدة لعلاقة شراكة وليس تنافس بين الدولة وقوى المجتمع.
4 - انحسار دور مجموعة عدم الانحياز وتضاؤل الفكرة ذاتها، وانكماش مجموعة الـ 77 بحيث اقتصرت مؤخرًا على 15 دولة تمثل ثلاث قارات (آسيا – أفريقيا – أمريكا اللاتينية)، وأخفقت تلك الدول في عرض مطالبها في مفاوضاوت الجات، كما أن بعض الدول النامية كان الغبن عليها كبيرًا؛ إذ لم تجد من يمثلها التمثيل الذي يحقق مطالبها في مواجهة الدول المتقدمة؛ لذلك فقد تولّدت لدى هذه الدول الحاجة لتبني مبدأ يتجاوز سلبيات التخطيط المركزي ومساوئ الرأسمالية، وأثرهما على الطبقات الفقيرة تحديدًا.
مظاهر الصعود
هناك عدة مظاهر لصعود الطريق الثالث كخيار بين الحركات الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا المتمسكة بشكل معلن بمفهوم العدالة الذي كانت تعبّر عنه الشيوعية، ورافضة لحدوث تحولات اجتماعية تهمش الطبقات الفقيرة، خاصة من اللاجئين والمهاجرين من الدول النامية.
كذلك نلحظ تغلغل المفهوم في أدبيات وخطاب الأحزاب المسيحية الديمقراطية اليمينية سواء في ألمانيا الأحزاب المسيحية أو في إيطاليا في الفاتيكان؛ لوجود اهتمام لدى هذه الأحزاب الدينية هناك للتقليل من حدة آثار الرأسمالية الشرسة؛ لذلك نجد أيضًا أن معظم أحزاب يمين الوسط قد تبنت تصورًا لدولة الرفاهة الحديثة في مقابل مصالحة الأحزاب السياسية الأخرى مع الرأسمالية والسوق الحر.
ويجد المتأمل للساحة الأوروبية أن معظم الأحزاب السياسية التي تسيطر على مقاليد الحكم حاليًا هي أحزاب يسارية ترفع مبدأ الاشتراكية الديمقراطية وضرورة التغير المستمر بشكل سلمي، بدءًا من الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا، مرورًا بالحزب الاشتراكي في فرنسا، ثم حزب العمال في إنجلترا (العمال الجديد كما يقول بلير)، وهي يسارية جديدة تتخلى عن الدوجماتية، وتطور رؤاها بما يتفق مع الطريق الثالث، وتقدم أطروحات هامة في مجال المرأة ومجال البيئة.
ومع قوة المجتمع المدني في هذه الدول واتساع هامش الحريات وحرية الصحافة، أوصل الناخبون غير الموالين لأي أيدلوجية هذه الأحزاب التي يطلق عليها "الوسط الجديد" والتي تعتنق الفكر الاشتراكي الديمقراطي إلى مقاعد البرلمان بأغلبية لافتة، فبالنسبة لرجل الشارع فإن هذا الطريق هو الذي يطبق - حسب تعبير Bodo Hombach المستشار الخاص لشرودر - مبدأ المساواة في البداية والمساواة في النهاية، أي المساواة في الفرص وفي الدخل، حتى وإن كان ذلك حلمًا يسعى الجميع بجد لتحقيقه.
اقتصاد بلا أيدلوجية
يسعى المفهوم لتحقيق غايات أساسية:
- وضع اقتصاد بعض الدول على المسار الصحيح، من حيث تغليب الصالح الاقتصادي الوطني بعيدًا عن الارتباط بأيدلوجية بعينها، أي تحرير الاقتصاد من الأيدلوجيا (وهو ما رآه المعارضون تحريرًا في ظل السيادة الرأسمالية الشرسة بما يعني الوقوع الحتمي في براثنها).
- تمكين بعض الدول الآخذة في النمو من الفرص التي يتيحها هذا الأسلوب، كأسلوب بديل في ظل الأحادية الموجودة والرأسمالية الطاغية.
- اتباع نهج اقتصادي واجتماعي يمكّن من مواجهة التأثيرات السلبية للأحادية السياسية والاقتصادية للحصول على حد أدنى من المكاسب الديمقراطية في الواقع الاستبدادي.
- تعظيم درجة تخصيص الموارد وخاصة الناجمة عن الخصخصة لصالح البعد الاجتماعي من جهة، وأيضًا تعظيم زيادة قاعدة التملك للطبقات العاملة ومحدودة الدخل في الوحدات التي تتم خصخصتها (وهو ما يثور الخلاف بشأن إمكانية تحققه في ظل سياسات التكيف الهيكلي التي يدرّها البنك وصندوق النقد الدولي).
- تبني المبادئ التي تنادي بأن دور الدولة يجب أن يوجّه أساسًا لخدمة الأهداف الاجتماعية جنبًا إلى جنب مع الأهداف الاقتصادية، أي وضع الدول أمام مسؤولياتها في الرفاهية الواجبة تجاه مواطنيها.
هل حدث تقدم؟!
يمكن القول: إن الدول الأوروبية في المقام الأول - وعلى رأسها الدول الاسكندنافية وألمانيا وإنجلترا وفرنسا - تحاول إيجاد الحلول اللازمة للتقدم على هذا الطريق، وفي ما يراه بعض المراقبين محاولة من الأنظمة الرأسمالية لتطوير نفسها وسدّ فجوات التطبيق وثغراته.
والطريق الثالث عند هذه الدول يُعَدّ مقياسًا يتم به قياس مدى نجاحها في المواءمة بين متطلبات الاقتصاد، والحد من تنافس ومبادرة وحريات فردية، ومتطلبات الرفاهة الاجتماعية من خدمات تعليم وصحة وتأمين اجتماعي وإعانة المسنين والمتبطلين.
ومما لا شك فيه أن هذه الدول وجدت نفسها في مأزق حقيقي، فهي ما زالت عاجزة عن الحفاظ على معدل إنتاج ملائم، وفي الوقت نفسه خلق فرص عمل جديدة، وأيضًا تدبير نفقات تمويل الخدمات الاجتماعية، خاصة الذين لا يشاركون في سوق العمل، مما شكل عبئًا كبيرًا على كاهلها، وتبرز هذه الأزمة في دول مثل فرنسا وألمانيا، أخذًا في الاعتبار هبوط الميزان الديمغرافي لصالح من هم فوق 65 سنة والمهاجرين الذين لا يجدون فرصة عمل مناسبة ويدخلون في البطالة.
الاختلاف حول طريقة الوصول
ولا يزال مفهوم الطريق الثالث في حاجة إلى مهلة زمنية حتى يتم تفعليه وحتى يمكن تطبيق مبادئه بشكل براجماتي لخدمة مصالح الطبقة الوسطى الآخذة في التآكل ليس فقط في دول العالم المتقدم، بل أيضًا في دول العالم النامي؛ فالوسط الجديد يحتاج إلى الدولة، ولكن أي شكل من أشكال الدولة؟
هناك من يراها الدولة التي تتبنى النهج الاشتراكي الديمقراطي، وتؤمن بالمنافسة العالمية؛ لأن المعلومات في مجال التكنولوجيا، كما أنها تؤمن بالابتكار، وتحدّ من سطوة جهازها البيروقراطي، وتلجأ إلى حلول مبتكرة، فإنها تستلهمها من قوى المجتمع المختلفة للتوفيق بين الحاجات المتصارعة.
ولا يمكن القول بأي حال من الأحوال: إن هذه الأمنيات سوف تتحقق بمعزل عن مشاركة قوى المجتمع المدني والأحزاب السياسية، فالأحزاب السياسية يجب في المرحلة القادمة أن تعكس مصالح الطبقة الوسطى، وأن تتبنى برامج براجماتية وتطور قدرات بحيث تجتذب الأجيال الشابة.
كما على الدولة القيام بوضع سياسات عامة تطرح حلولاً جديدة، مثل: تحرير سياسة العمل لتسمح بالعمل الجزئي أو الموسمي أو العمل المنزلي، ومشاركة صاحب العمل في أعباء الضمانات الاجتماعية، وأن تزيد من مسؤوليتها في مجال إعادة التدريب والتعليم.
ولكن على الجانب الآخر يرى بعض الاقتصاديين أن الحل الأمثل للخروج من هذه الأزمة يتمثل في رفع يد الدولة عن الاقتصاد حتى تتمكن من تمويل نفقاتها الاجتماعية، بعبارة أخرى أن تقوم الدولة باتخاذ بعض الإجراءات الليبرالية الجديدة للخروج من هذه الأزمة، وتتمثل هذه الإجراءات في الآتي:
- تحرير المشروعات الخاصة من أية قيود تفرضها الحكومات بغض النظر عن الآثار الاجتماعية التي ستنجم عن ذلك.
- مزيد من الانفتاح على التجارة والاستثمار العالميَّين.
- حرية كاملة لحركة رأس المال والسلع والخدمات.
- تخفيض الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، ولا تشمل تلك الخدمات فقط خدمات الصحة والتعليم، بل تمتد إلى أدوار الدولة الأساسية في الحفاظ على الأمن، وتعبيد الطرق، والإمداد بالمياه، وهي الأدوار التي ظلت تلازم الدولة حتى في ظل سيادة مفهوم العولمة.
- إلغاء مفهوم الخدمة العامة أو الخدمة الاجتماعية وإحلال محله مفهوم المسؤولية الفردية، وذلك من خلال الضغط على الطبقات الدنيا؛ لتبحث عن حلولها لمشاكلها التعليمية والصحية، وتأمين نفسها بعيدًا عن موارد الدولة.
ويتضح مما سبق أن هذه الليبرالية الجديدة وإن كان أنصارها يدعون أنها في المدى الطويل تخدم فكرة تطبيق الطريق الثالث أو الاشتراكية الديمقراطية في تدبيرها التمويل اللازم لنفقات الدولة الاجتماعية، فإنها تعبر عن ضغط من المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليّين.
هذه الليبرالية الجديدة ظهرت آثارها بشكل واضح في الضغط الذي مُورس على دول مثل شيلي والمكسيك من أجل خفض أجور العمال بمعدلات تتراوح بين 40 - 50%، في الوقت الذي زادت فيه تكلفة المعيشة بمعدل 80%، ونتج عن ذلك إفلاس أكثر من 20 ألف مشروع صغير ومتوسط.
بل حتى في الولايات المتحدة تضغط الشركات متعددة الجنسيات، مستهدفة الحد من الإنفاق على برامج الرفاهة الاجتماعية والهجوم على حقوق العمال، ويخشى الشعب الأمريكي أن يكون العقد الاجتماعي للجمهوريين في الألفية الثالثة هو ليبرالية جديدة محضة، فالليبراليون الجدد يبذلون مجهودًا كبيرًا للحدّ من برامج الحماية الاجتماعية للأطفال وللمسنين وللمتبطلين، أي المعاناة إلى ما لا نهاية.
الطريق الثالث للدول النامية
المأزق الذي تعيشه الدول النامية منذ نصف قرن هو عدم قدرتها على استلهام نموذج سياسي اقتصادي يلائم ظروفها وطبيعتها، مع ثبوت فشل تبنّيها لسياسات اشتراكية ماركسية وليبرالية ديمقراطية؛ لغياب العوامل والمكونات اللازمة لترسيخ أي من هاتين النظريتين.
لقد بدأت الدول النامية تخطو خطواتها الأولى نحو الانفتاح على الأسواق العالمية وتحرير اقتصادها وخصخصة مشاريعها، خاصة عقب انهيار النظام الاشتراكي وفقدانها الحماس للأفكار والقيم الاشتراكية، وفي الوقت الذي تحاول فيه أن تلعب دورًا في الاقتصاد العالمي، وأن تشارك في فعالياته نجدها تحاول جاهدة الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتوفير الخدمات الاجتماعية في حدودها الدنيا، أي الحفاظ على دولة الرفاهة مع عدم التخلف عن ركب الاقتصاد العالمي.
فمن الناحية النظرية يبدو هذا الطريق مجديًا لهذه الدول، محققا لآمالها وطموحاتها بدون الالتزام بالانحياز لأي فكر وأيدولوجية ما.
أما من الناحية البراجماتية(النفعية)، فإن هذه الفكرة قد يصعب تحقيقها دون مشاركة مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل أكبر لدور الأحزاب السياسية، وإحياء الطبقة الوسطى بحيث تعبّر الأحزاب عن احتياجاتها وفكرها، دون الضغط على موازنة الدولة أو جرّها للعب الدور الرئيسي المركزي والحاكم في الاقتصاد الوطني مرة أخرى، وفي الوقت ذاته دون دفعها إلى مزيد من الاقتراض بحيث تصبح مثقلة بالديون ق بمحتوى المفهوم ذاته، وأسباب ومطالبة بسداد فوائدها المرتفعة عن طريق الاستقطاع مرة أخرى من نفقات دولة الرفاهة (غادة موسى)
معظم الدارسين والمنظّرين الذين تناولوا هذا المفهوم بالتحليل ركّزوا على جانبه الاقتصادي متناسين - ربما بحسن نية - أن النظم السياسية سواء الشمولية أو الديمقراطية الليبرالية هي المتسبب الأول في هذا الارتباك الفكري على مستوى التنظيم السياسي والاقتصادي الاجتماعي معًا، نتيجة تطبيق كل منها الحد الأقصى والسقف الأعلى للسياسات، فالاشتراكية أسرفت في اشتراكيتها، والرأسمالية غالت في رأسماليتها، وضاع طريق الوسط على أرض الواقع، بل وعلى مستوى النظرية في أحيان كثيرة.
جاذبية الطريق الثالث
الطريق الثالث كما ظهرت فكرته لأول مرة عام 1936 على يد الكاتب السويدي "arquis Child " هو طريق الوسط بين مفهومي الليبرالية الاقتصادية والاشتراكية الماركسية، فهو أسلوب يوائم بين رأسمالية السوق الحر والمفهوم الكلاسيكي عن الأمن والتضامن الاجتماعي.
وتنبع جاذبية هذا المفهوم من كونه لا يتبنّى السقف الأعلى أو الحد الأقصى لكل نظرية، أي أنه جسر بين الأيدولوجيات. وعلى الرغم من أن الاشتراكية الثورية لم تحظَ بأي قبول داخل الولايات المتحدة فإن القيم والمثل الاشتراكية - خاصة قيمة العدل الاجتماعي - تغلغلت بشكل قوي في توجهات الديمقراطيين الليبراليين واليساريين على حد سواء، كما لا يخفى على معظم المفكرين حقيقة إصابة المجتمعات الأوروبية والمجتمع الأمريكي بخسائر من جرّاء تطبيق الأفكار الليبرالية المحضة. وبغضّ النظر عن النتائج المؤسفة من جرّاء تطبيق القيم الاشتراكية في ظل النظم المركزية الشيوعية، فإنها تظل لها جاذبيتها في وجدان الأغلبية من المستضعفين.
لماذا تجدّد طرحه؟
هناك عدد من العوامل والظروف الدولية والمحلية ساعدت على طرح هذا المفهوم مجددًا، أبرزها:
- سقوط القطبية الثنائية بتهاوي الاتحاد السوفييتي وسيادة الولايات المتحدة على مسرح الأحداث العالمي، متجاوزة الأطراف الأخرى، ليس فقط الدول النامية ولكن بعض الدول الأوروبية كذلك.
- الوعي بخطورة سياسات الجات على الدول النامية والدول الصناعية الجديدة خاصة الآسيوية، وسعي بعض الدول الأوروبية لتفادي كارثة دولية تتمثل في صراع قد ينشب بين الشمال الغني والجنوب الفقير، وذلك بمحاولة إيجاد حوار بين دول العالم الثالث والدول المتقدمة لعلاج المشاكل التي تواجه الجميع في عالم واحد، وهو ما جسّدته الأحداث الأخيرة في سياتل 2000 وغيرها.
3 - ظاهرة الدمج بين الشركات العملاقة والوحدات الكبيرة على حساب الأسواق المحلية، والشعور بالحاجة إلى دولة قوية ومجتمع قوي في آن واحد، أي صيغة جديدة لعلاقة شراكة وليس تنافس بين الدولة وقوى المجتمع.
4 - انحسار دور مجموعة عدم الانحياز وتضاؤل الفكرة ذاتها، وانكماش مجموعة الـ 77 بحيث اقتصرت مؤخرًا على 15 دولة تمثل ثلاث قارات (آسيا – أفريقيا – أمريكا اللاتينية)، وأخفقت تلك الدول في عرض مطالبها في مفاوضاوت الجات، كما أن بعض الدول النامية كان الغبن عليها كبيرًا؛ إذ لم تجد من يمثلها التمثيل الذي يحقق مطالبها في مواجهة الدول المتقدمة؛ لذلك فقد تولّدت لدى هذه الدول الحاجة لتبني مبدأ يتجاوز سلبيات التخطيط المركزي ومساوئ الرأسمالية، وأثرهما على الطبقات الفقيرة تحديدًا.
مظاهر الصعود
هناك عدة مظاهر لصعود الطريق الثالث كخيار بين الحركات الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا المتمسكة بشكل معلن بمفهوم العدالة الذي كانت تعبّر عنه الشيوعية، ورافضة لحدوث تحولات اجتماعية تهمش الطبقات الفقيرة، خاصة من اللاجئين والمهاجرين من الدول النامية.
كذلك نلحظ تغلغل المفهوم في أدبيات وخطاب الأحزاب المسيحية الديمقراطية اليمينية سواء في ألمانيا الأحزاب المسيحية أو في إيطاليا في الفاتيكان؛ لوجود اهتمام لدى هذه الأحزاب الدينية هناك للتقليل من حدة آثار الرأسمالية الشرسة؛ لذلك نجد أيضًا أن معظم أحزاب يمين الوسط قد تبنت تصورًا لدولة الرفاهة الحديثة في مقابل مصالحة الأحزاب السياسية الأخرى مع الرأسمالية والسوق الحر.
ويجد المتأمل للساحة الأوروبية أن معظم الأحزاب السياسية التي تسيطر على مقاليد الحكم حاليًا هي أحزاب يسارية ترفع مبدأ الاشتراكية الديمقراطية وضرورة التغير المستمر بشكل سلمي، بدءًا من الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا، مرورًا بالحزب الاشتراكي في فرنسا، ثم حزب العمال في إنجلترا (العمال الجديد كما يقول بلير)، وهي يسارية جديدة تتخلى عن الدوجماتية، وتطور رؤاها بما يتفق مع الطريق الثالث، وتقدم أطروحات هامة في مجال المرأة ومجال البيئة.
ومع قوة المجتمع المدني في هذه الدول واتساع هامش الحريات وحرية الصحافة، أوصل الناخبون غير الموالين لأي أيدلوجية هذه الأحزاب التي يطلق عليها "الوسط الجديد" والتي تعتنق الفكر الاشتراكي الديمقراطي إلى مقاعد البرلمان بأغلبية لافتة، فبالنسبة لرجل الشارع فإن هذا الطريق هو الذي يطبق - حسب تعبير Bodo Hombach المستشار الخاص لشرودر - مبدأ المساواة في البداية والمساواة في النهاية، أي المساواة في الفرص وفي الدخل، حتى وإن كان ذلك حلمًا يسعى الجميع بجد لتحقيقه.
اقتصاد بلا أيدلوجية
يسعى المفهوم لتحقيق غايات أساسية:
- وضع اقتصاد بعض الدول على المسار الصحيح، من حيث تغليب الصالح الاقتصادي الوطني بعيدًا عن الارتباط بأيدلوجية بعينها، أي تحرير الاقتصاد من الأيدلوجيا (وهو ما رآه المعارضون تحريرًا في ظل السيادة الرأسمالية الشرسة بما يعني الوقوع الحتمي في براثنها).
- تمكين بعض الدول الآخذة في النمو من الفرص التي يتيحها هذا الأسلوب، كأسلوب بديل في ظل الأحادية الموجودة والرأسمالية الطاغية.
- اتباع نهج اقتصادي واجتماعي يمكّن من مواجهة التأثيرات السلبية للأحادية السياسية والاقتصادية للحصول على حد أدنى من المكاسب الديمقراطية في الواقع الاستبدادي.
- تعظيم درجة تخصيص الموارد وخاصة الناجمة عن الخصخصة لصالح البعد الاجتماعي من جهة، وأيضًا تعظيم زيادة قاعدة التملك للطبقات العاملة ومحدودة الدخل في الوحدات التي تتم خصخصتها (وهو ما يثور الخلاف بشأن إمكانية تحققه في ظل سياسات التكيف الهيكلي التي يدرّها البنك وصندوق النقد الدولي).
- تبني المبادئ التي تنادي بأن دور الدولة يجب أن يوجّه أساسًا لخدمة الأهداف الاجتماعية جنبًا إلى جنب مع الأهداف الاقتصادية، أي وضع الدول أمام مسؤولياتها في الرفاهية الواجبة تجاه مواطنيها.
هل حدث تقدم؟!
يمكن القول: إن الدول الأوروبية في المقام الأول - وعلى رأسها الدول الاسكندنافية وألمانيا وإنجلترا وفرنسا - تحاول إيجاد الحلول اللازمة للتقدم على هذا الطريق، وفي ما يراه بعض المراقبين محاولة من الأنظمة الرأسمالية لتطوير نفسها وسدّ فجوات التطبيق وثغراته.
والطريق الثالث عند هذه الدول يُعَدّ مقياسًا يتم به قياس مدى نجاحها في المواءمة بين متطلبات الاقتصاد، والحد من تنافس ومبادرة وحريات فردية، ومتطلبات الرفاهة الاجتماعية من خدمات تعليم وصحة وتأمين اجتماعي وإعانة المسنين والمتبطلين.
ومما لا شك فيه أن هذه الدول وجدت نفسها في مأزق حقيقي، فهي ما زالت عاجزة عن الحفاظ على معدل إنتاج ملائم، وفي الوقت نفسه خلق فرص عمل جديدة، وأيضًا تدبير نفقات تمويل الخدمات الاجتماعية، خاصة الذين لا يشاركون في سوق العمل، مما شكل عبئًا كبيرًا على كاهلها، وتبرز هذه الأزمة في دول مثل فرنسا وألمانيا، أخذًا في الاعتبار هبوط الميزان الديمغرافي لصالح من هم فوق 65 سنة والمهاجرين الذين لا يجدون فرصة عمل مناسبة ويدخلون في البطالة.
الاختلاف حول طريقة الوصول
ولا يزال مفهوم الطريق الثالث في حاجة إلى مهلة زمنية حتى يتم تفعليه وحتى يمكن تطبيق مبادئه بشكل براجماتي لخدمة مصالح الطبقة الوسطى الآخذة في التآكل ليس فقط في دول العالم المتقدم، بل أيضًا في دول العالم النامي؛ فالوسط الجديد يحتاج إلى الدولة، ولكن أي شكل من أشكال الدولة؟
هناك من يراها الدولة التي تتبنى النهج الاشتراكي الديمقراطي، وتؤمن بالمنافسة العالمية؛ لأن المعلومات في مجال التكنولوجيا، كما أنها تؤمن بالابتكار، وتحدّ من سطوة جهازها البيروقراطي، وتلجأ إلى حلول مبتكرة، فإنها تستلهمها من قوى المجتمع المختلفة للتوفيق بين الحاجات المتصارعة.
ولا يمكن القول بأي حال من الأحوال: إن هذه الأمنيات سوف تتحقق بمعزل عن مشاركة قوى المجتمع المدني والأحزاب السياسية، فالأحزاب السياسية يجب في المرحلة القادمة أن تعكس مصالح الطبقة الوسطى، وأن تتبنى برامج براجماتية وتطور قدرات بحيث تجتذب الأجيال الشابة.
كما على الدولة القيام بوضع سياسات عامة تطرح حلولاً جديدة، مثل: تحرير سياسة العمل لتسمح بالعمل الجزئي أو الموسمي أو العمل المنزلي، ومشاركة صاحب العمل في أعباء الضمانات الاجتماعية، وأن تزيد من مسؤوليتها في مجال إعادة التدريب والتعليم.
ولكن على الجانب الآخر يرى بعض الاقتصاديين أن الحل الأمثل للخروج من هذه الأزمة يتمثل في رفع يد الدولة عن الاقتصاد حتى تتمكن من تمويل نفقاتها الاجتماعية، بعبارة أخرى أن تقوم الدولة باتخاذ بعض الإجراءات الليبرالية الجديدة للخروج من هذه الأزمة، وتتمثل هذه الإجراءات في الآتي:
- تحرير المشروعات الخاصة من أية قيود تفرضها الحكومات بغض النظر عن الآثار الاجتماعية التي ستنجم عن ذلك.
- مزيد من الانفتاح على التجارة والاستثمار العالميَّين.
- حرية كاملة لحركة رأس المال والسلع والخدمات.
- تخفيض الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، ولا تشمل تلك الخدمات فقط خدمات الصحة والتعليم، بل تمتد إلى أدوار الدولة الأساسية في الحفاظ على الأمن، وتعبيد الطرق، والإمداد بالمياه، وهي الأدوار التي ظلت تلازم الدولة حتى في ظل سيادة مفهوم العولمة.
- إلغاء مفهوم الخدمة العامة أو الخدمة الاجتماعية وإحلال محله مفهوم المسؤولية الفردية، وذلك من خلال الضغط على الطبقات الدنيا؛ لتبحث عن حلولها لمشاكلها التعليمية والصحية، وتأمين نفسها بعيدًا عن موارد الدولة.
ويتضح مما سبق أن هذه الليبرالية الجديدة وإن كان أنصارها يدعون أنها في المدى الطويل تخدم فكرة تطبيق الطريق الثالث أو الاشتراكية الديمقراطية في تدبيرها التمويل اللازم لنفقات الدولة الاجتماعية، فإنها تعبر عن ضغط من المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليّين.
هذه الليبرالية الجديدة ظهرت آثارها بشكل واضح في الضغط الذي مُورس على دول مثل شيلي والمكسيك من أجل خفض أجور العمال بمعدلات تتراوح بين 40 - 50%، في الوقت الذي زادت فيه تكلفة المعيشة بمعدل 80%، ونتج عن ذلك إفلاس أكثر من 20 ألف مشروع صغير ومتوسط.
بل حتى في الولايات المتحدة تضغط الشركات متعددة الجنسيات، مستهدفة الحد من الإنفاق على برامج الرفاهة الاجتماعية والهجوم على حقوق العمال، ويخشى الشعب الأمريكي أن يكون العقد الاجتماعي للجمهوريين في الألفية الثالثة هو ليبرالية جديدة محضة، فالليبراليون الجدد يبذلون مجهودًا كبيرًا للحدّ من برامج الحماية الاجتماعية للأطفال وللمسنين وللمتبطلين، أي المعاناة إلى ما لا نهاية.
الطريق الثالث للدول النامية
المأزق الذي تعيشه الدول النامية منذ نصف قرن هو عدم قدرتها على استلهام نموذج سياسي اقتصادي يلائم ظروفها وطبيعتها، مع ثبوت فشل تبنّيها لسياسات اشتراكية ماركسية وليبرالية ديمقراطية؛ لغياب العوامل والمكونات اللازمة لترسيخ أي من هاتين النظريتين.
لقد بدأت الدول النامية تخطو خطواتها الأولى نحو الانفتاح على الأسواق العالمية وتحرير اقتصادها وخصخصة مشاريعها، خاصة عقب انهيار النظام الاشتراكي وفقدانها الحماس للأفكار والقيم الاشتراكية، وفي الوقت الذي تحاول فيه أن تلعب دورًا في الاقتصاد العالمي، وأن تشارك في فعالياته نجدها تحاول جاهدة الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتوفير الخدمات الاجتماعية في حدودها الدنيا، أي الحفاظ على دولة الرفاهة مع عدم التخلف عن ركب الاقتصاد العالمي.
فمن الناحية النظرية يبدو هذا الطريق مجديًا لهذه الدول، محققا لآمالها وطموحاتها بدون الالتزام بالانحياز لأي فكر وأيدولوجية ما.
أما من الناحية البراجماتية(النفعية)، فإن هذه الفكرة قد يصعب تحقيقها دون مشاركة مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل أكبر لدور الأحزاب السياسية، وإحياء الطبقة الوسطى بحيث تعبّر الأحزاب عن احتياجاتها وفكرها، دون الضغط على موازنة الدولة أو جرّها للعب الدور الرئيسي المركزي والحاكم في الاقتصاد الوطني مرة أخرى، وفي الوقت ذاته دون دفعها إلى مزيد من الاقتراض بحيث تصبح مثقلة بالديون ق بمحتوى المفهوم ذاته، وأسباب ومطالبة بسداد فوائدها المرتفعة عن طريق الاستقطاع مرة أخرى من نفقات دولة الرفاهة (غادة موسى)